محمد القصبي يكتب:

أليست المياه في القاهرة الجديدة "أمن قومي"؟!!

محمد القصبي
محمد القصبي

محنة هائلة انتهت بإلقاء نادي القصة في الشارع تنفيذا لحكم قضائي لصالح ملاك المقر التاريخي للنادي..هذا المقر في شارع قصر العيني،  تعاقد على استئجاره في يوليو عام ١٩٦٠ الأديب الكبير يوسف السباعي سكرتير عام نادي القصة آنذاك مع الباشا فؤاد سراج الدين..من خلال هذا المقر مارس نادي القصة كأول منتدى ثقافي عربي نشاطه التنويري عبر أكثر من نصف قرن متناوبا على رئاسته الكبار.. طه حسين..ثروت اباظة..نجيب محفوظ ..
تقدمت بشكوى رسمية إلى رئاسة الجمهورية بصفتي سكرتير عام النادي..مناشدا وزارة الثقافة بالتدخل لإنقاذه من خلال توفير مقر له ودعمه ماديا لانتشاله من حالة الأنيميا المادية الحادة التي يعاني منها ..

فإذا بوزيرة الثقافة السابقة د.ايناس عبد الدايم تصفعني برد رسمي مذهل: نادي القصة لايتبع وزارة الثقافة..!!!
نادي القصة الذي أنشأه عمالقة الثقافة المصرية.. يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس، طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، محمود تيمور ..لايتبع وزارة الثقافة..!! 
هذا النادي الذي ظل مركزا لإشعاع الفكر التنويري عبر أكثر من نصف قرن..لاشأن لوزارة الثقافة به؟!!!
هل الوزيرة شخصنت الأمر،  وحاولت الانتقام مني لمقالي    في الحوار المتمدن ..في ٢٩ سبتمبر ٢٠١٨ ، والذي انتقدت خلاله احتفاءها بالمدعو محمد فودة مدير مكتب وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، حين استقبلته في مكتبها، والتقطت معه الصور التذكارية، ولبت طلبه بإنشاء قصر ثقافة في زفتي - دائرته الانتخابية- حيث كان يعتزم ترشيح نفسه للبرلمان..إلا أن القضاء استبعده من قائمة المرشحين..؟!!!!
أما لماذا استبعده القضاء فهو ذات السبب وراء انتقادي للوزيرة السابقة..
محمد فودة هذا سبق الزج به في السجن عام ١٩٩٧  لمدة خمس سنوات وتغريمه وزوجته ٣ملايين جنيه، بعد  إدانته بالحصول على رشاوي من رجال أعمال  لتسهيل تملكهم  لأراض تابعة  للآثار..!!
فإذا بالوزيرة تحتفي به وتلتقط معه الصور التذكارية !!!!!!!
.........
أحد كبار المسئولين أخبرته بمحنة نادي القصة ورد الوزيرة على شكوى النادي بأنه لايتبع الوزارة..
من خلال مساعي هذا المسئول المثقف..المنتمي بقوة لهذا البلد، تم إنقاذ النادي ، حيث تراجعت الوزيرة عن موقفها. وتم دعم النادي، لنتمكن من استئجار مقر بديل..
ولم أفاجأ بمن يدعي بأنه بفضل اتصالاته ومساعيه خرج النادي من محنته!!!!!!
لم أفاجأ..لأن هذا حالنا في مصر، الفشل ابن لقيط، وللنجاح ألف ألف  أب!!
"ثمة حالة شبيهة نعايشها الآن في المنطقة التي أقيم بها  بالقاهرة الجديدة..مشاكل عديدة تواجهها المنطقة  تتعلق بالغاز والمواصلات واللاند سكيب وخطر انتشار العشوائية..بعض السكان تقدموا بشكاو  رسمية، إحداها لرئاسة الجمهورية واثنتان   لمجلس 
الوزراء، منها شكوى مذيلة بتوقيع أكثر من ٨٠ من الملاك..ومن بين السكان من نشر مقالات في الصحف حول مشاكل المنطقة، وقد استجاب المسئولون لشكاوي السكان..حيث تشهد المنطقة  حركة ونشاطا ملحوظين لتلبية احتياجاتها، وتخلت الهيئة العامة للمجتمعات العمرانية عن مشروع لبناء عمارات لم يكن مدرجا في الخطط الأصلية للهيئة، فإذا بأحدهم ينشر مزاعمه على جروبات المنطقة بأن بفضل  مساعيه استجابت الجهات المسئولة، ليبدأ نصب فرح العمدة: بالروح..بالدم..نفديك يا........"

......
حين التقيت بهذا المسئول..لأعبر له عن امتنان أعضاء نادي القصة لدوره في إنقاذ النادي..تطلع إلي في استغراب..قائلا: شكر ايه وامتنان ايه  ياأستاذ قصبي..
نادي القصة ده أمن قومي ..!!
هل يبالغ ..نادي القصة أمن قومي!!!
يقينا لايبالغ..
............. 
منذ حوالي ٧ سنوات ..شرفت بتنظيم وإدارة  ندوة في صحيفة الأخبار المسائي..كان عنوانها: تحصين العقول قبل تحصين الشوارع..!!
كان هدفي من تنظيم الندوة  التي شارك فيها اللواء فؤاد علام مساعد وزير الداخلية الأسبق، والداعية المعروفة د.سعاد صالح الأستاذة بجامعة الأزهر، 
وبعض من رموزنا  الدينية والثقافية، توجيه رسالة مفادها  أن القضاء على الإرهاب لن يكون فقط بالقوة المسلحة ..بل وما لا يقل أهمية بتحصين العقول بالفكر التنويري..بصحيح الدين..
ولن يكون الهدف من إشاعة الثقافة التنويرية فقط القضاء على الإرهاب.. فثمة تهديدات أخرى لاتقل خطرا تهدد الأمن القومي المصري،  الفساد والجهل والدجل والشعوذة والقبح في الشوارع وفي الوجدان والسلبية وتسطيح الخطاب الديني  وزنزنته في لحية ونقاب و أدعية وأذكار وسدوا الفرج!!! خلال تقديمي للندوة نوهت إلى  أن الهدف من إشاعة الثقافة التنويرية تعميق انتمائنا الوطني..فلايكون مجرد تلويح بعلم الدولة في الاستاد!! أيضا تصحيح  الخطاب الديني، فلانزنزن الدين في لحية ونقاب و أدعية وأذكار وهل صليت على النبي ألف مرة ، ولاشيء عن المعاملات ، لاشيء عن  الاقتداء بأخلاقه الكريمة..
نشر الثقافة المستنيرة سيؤدي إلى شيوع مانفتقده بشدة الآن.. الأمانة والعدل والتكافل والخير والسلام ، والسعي من أجل  الصالح العام..
ان نجحنا في ذلك فنحن نحمي الأمن القومي للأمة..ونزيح كل المتاريس التي تحول دون ازدهارها..

وألم يكن هذا دور نادي القصة منذ إنشائه في مطلع خمسينيات القرن الماضي؟ 
 نعم .. كان أحد خطوط انتاج ثقافة الاستنارة ..ليس في مصر وحدها ..بل في أرجاء العالم العربي؟

إذن لم يبالغ المسئول الكبير حين أشار لأزمة نادي القصة بأنها قضية أمن قومي..
وبدوري لا أبالغ  إن قلت أن تلك   أيضا رسالة  ال٥٣ ألف مدرسة المنتشرة في أنحاء مصر ..وال ٦٦ جامعة ..وال٦٠٠ قصر ثقافة ونادي أدب.. وال١٤٠ ألف مسجد وزاوية..وال ٥٢٠٠ مركز شباب ومنشأة رياضية..كل هذه خطوط إنتاج للثقافة المستنيرة التي  تستهدف حماية الأمن القومي من كل المخاطر التي تحيق به!!
لكن على مايبدو أن خطوط الانتاج هذه لاتقوم بدورها..!!
......
منذ عدة أسابيع اتخذ مجلس إدارة نادي القصة قراره باستثناف إصدار مجلة القصة بعد توقف ٧ سنوات.. " خلال زياراتي لبعض الدول العربية في السنوات الأخيرة  كنت أواجه بذات السؤال من قبل العديد من المثقفين : أين مجلة القصة ؟!!!!".
  وحين التقيت بالكاتب الكبير د.هيثم الحاج علي رئيس الهيئة العامة للكتاب وناشدته مساعدة نادي القصة  في استئناف إصدار المجلة، أبدى ترحيبه. وبالفعل تم 
التوقيع على عقد  إصدار المجلة التي أشرف برئاسة تحريرها بالتعاون ببن النادي والهيئة العامة للكتاب.
وتلك كانت مشيئة أسرة تحرير المجلة.. أن يكون أول إصدار لها في أكتوبر المقبل بمناسبة الذكرى ال٤٩ لانتصار أكتوبر العظيم..
على أن يخصص العدد لتناول الروايات التي جسدت تلك الملحمة التي خاضها الجندي المصري لاستعادة الأرض..
لكن رأيت  ألا يقتصر 
  العدد الأول على أدب الحرب والمقاومة، وإنما أيضا ينبغي أن يمتد لتلك الأعمال الأدبية التي تناولت مصير الأبطال الذين عبروا القناة واقتحموا خط بارليف ..كيف آلت أحوالهم بعد الحرب وفي ظل الانفتاح الاقتصادي..وسيطرة مافيا الحزب اللاوطني!!   
......

خلال التجهيز لمادة العدد الأول لمجلة القصة..ومعظم المادة يجسد الأجواء التي سادت عقب كارثة ٥ يونيو  ١٩٦٧..والمناخ العام المستعر بروح رفض الهزيمة وحتمية القتال..تراودني بقوة ذكرى جارتنا الفلاحة الفقيرة التي نزعت عقب هزيمة يونيو  اسورتها الذهبية. - هدية عريسها لها عند الزواج-  للتبرع بها للمجهود الحربي..
طيف تلك الفلاحة الآن يلح علي وأنا أستجدي بضعة جنيهات من جيران ميسورين..في المنطقة التي نقطن بها في القاهرة الجديدة..لإصلاح أعطاب في شبكة المياه العذبة في المنطقة..!!!

المهندس المسئول أقسم لي أنه لاتوجد لديهم قطع غيار. ودعاني لزيارة المخزن لأرى بنفسي..!!
المبلغ المطلوب حوالي ٤٠٠ جنيه..يعني لو لدينا قدر من انتماء ووعي تلك الفلاحة الفقيرة التي تبرعت بأسورتها الذهبية للمجهود الحربي..لو ٤٠ جارا فقط تجاوبوا ودفع كل منهم ١٠ جنيهات، لقضي الأمر..
أحدهم ..يمتهن واحدة من تلك المهن التي أنعتها بمهن الرسالة دعوته للتبرع ..فصاح : والمسئولين  فين..مابيصلحوش ليه؟! مش همه دول اللي سابوا النيل لأثيوبيا!!
لحظتها  نظرت إلى المسجد الذي غادرناه من لحظات بعد أداء صلاة الجمعة في خشوع.. وقبل شعائر الصلاة تسابقنا لاحتلال الصف الأول،  للفوز  بدرجات أعلى ، حريصين على الإطالة في السجود"، حريصين على سد الفرج " مشاجرة حدثت في صلاة العشاء بمسجد الحاجة بسبب سد الفرج خلال رمضان الماضي " !!!
لحظتها تخيلت  الرسول الكريم  ظهر فجأة، ثم رأى المياه تنزف في الشوارع ، أمام عماراتنا الفخمة التي أنفقنا على بنائها ملايين الجنيهات، تلك المياه التي  لايثير هديرها في الشوارع  بداخلنا أي ذرة من الانزعاج ونحن نجتازها بسياراتنا الفارهة متجهين إلى المسجد ..بل ربما  لا نراها ونحن منشغلين بالثرثرة في موبايلات بآلاف الجنيهات ..
ماذا سيقول عنا الرسول الكريم، وهو يعلم أن المياه  أصبحت مع ندرتها كالدم الذي يجري في شرايينا؟! ماذا سيقول لو رآنا نتعامل مع هديرها في الشوارع بهذا  القدر المذهل من اللامبالاة..!!!!
أظنه -رسولنا الكريم- 
سيشهر في وجوهنا حديثه الشريف للصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص حين رآه  يسرف في الوضوء:
حيث قال :  ما هذا الإسراف؟ فتساءل سعد في دهشة : أفي الوضوء إسراف؟
 قال الرسول الكريم : نعم وإن كنت على نهر جار..

مصر -نعم - على نهر جار..لكنه لايكفي احتياجات ١٠٥ ملايين بني آدم.. 
في الخمسينيات من القرن الماضي، حين كان عدد سكان مصر ٢٣ مليون نسمة كان نصيب المواطن  أكثر من ألفي متر مكعب من المياه سنويا..
الآن عدد السكان ١٠٥ ملايين..الآن انخفض نصيب الفرد من ٢٠٠٠ متر مكعب من المياه العذبة إلى ٥٦٠ متر..أي أقل بكثير من خط الفقر المائي " الف متر مكعب سنويا"..
الرسول يلوم الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص لأنه يسرف في الوضوء،  حتى لو كان على نهر جار..فماذا لو رآنا نتجاهل هدير المياه في الشوارع..وكل المطلوب لإيقاف هذا الهدير بضعة جنيهات من المواطن..
أليس هذا التجاهل تجاه شريان الحياة الذي ينزف في الشارع عدم وعي بأحد أركان أمننا القومي ..!!
.....
وماذا لو ظهرت في منطقتنا فجأة  جارتي الفلاحة الأمية  الفقيرة بطرحتها السوداء وجلبابها الوحيد،  ورأت المياه - أعز مانملك-  تهدر هكذا؟
أظنها ستختزل وجباتها الغذائية الثلاث إلى وجبة واحدة لتتبرع بثمن الوجبتين الأخريين لإيقاف نزيف دمنا في الشوارع!! 

........ 
بالمناسبة..
- مصر لن تقبل تحت أي ظرف المساس بحصتها من مياه النيل..هذه قضية وجود!!!!

ترشيحاتنا